لم يختلف المفكرون على شيء قدر اختلافهم على تعريف أو تحديد معنى ومضمون كلمة الثقافة وعلى أبعاد ما تمثله في مسيرة الحضارة "المجتمع". وهناك من قال إن تعاريف الثقافة زادت عن مئتي تعريف، ولكنها جميعها تلتقي عند نقطة مؤداها أن الإنسان لا يمكن أن ينفصل عن الثقافة. لذلك سنحاول أن نقدم بعض التعاريف الغربية والعربية للثقافة دون إسهاب. ونبدأ بأقدم التعريفات وأكثرها ذيوعاً حتى الآن لقيمته التاريخية، وهو تعريف إدوارد تايلور، الذي قدمه في أواخر القرن التاسع عشر كتابه عن "الثقافة البدائية" والذي ذهب فيه إلى أن الثقافة: "كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات، والفنون و الأخلاق، والقانون والعرف، وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في مجتمع". وهكذا يبرز هذا التعريف العناصر اللامادية لحياة الناس في جماعة، كالأخلاق والقانون والعرف التي تنشأ نتيجة للتفاعل الاجتماعي، وتأخذ طابعاً إلزامياً، إلى جانب العنصر المادي الثقافي، علاوة على العلاقات بين الناس، وبين العناصر المكونة للثقافة. ولعله من أبسط تعريفات الثقافة وأكثرها ذيوعاً ووضوحاً تعريف أحد علماء الاجتماع المحدثين روبرت برستد، الذي ظهر في أوائل الستينيات، حيث يعرفها بقوله: "إن الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه، أو نقوم بعمله، أو نمتلكه كأعضاء في مجتمع".. يبرز هذا التعريف الصيغة التألفية للثقافة لتصبح ظاهرة مركبة تتكون من عناصر بعضها فكري وبعضها سلوكي وبعضها مادي([1]). ولأن الثقافة تنتشر بين الناس بواسطة الاتصال الاجتماعي، أي بواسطة النماذج التي يقدمها المجتمع، فقد عرفها الفيلسوف الأمريكي جون ديوي: (بأنها حصيلة التفاعل بين الإنسان وبيئته) ([2]). وحصيلة التفاعل بين الإنسان وبيئته تتمثل في نموذج أو طريقة حياة المجتمع، ذلك النموذج أو تلك الطريقة هو الغاية التي يسعى كل مجتمع لتحقيقها في سلوك وحياة أفراده، الذين بدورهم يحاولون خلق النظام الاجتماعي الذي يتكون من مجمل عقائد وعادات وتقاليد.. أي مجتمع، وعلى ذلك عرفها المؤرخ الأمريكي ول ديورانت "الثقافة هي النظام الاجتماعي والتشريعي والخُلقي والنشاط الثقافي"[3]. أما المفكر الأمريكي الذي أثارت كتاباته بداية العقد التاسع من القرن الماضي ولازال صخباً إعلامياً وثقافياً بين أنصار نظريته "صدام أو صراع الحضارات" ومعارضيها صموئيل هنتنجتون فيعتبر "أن لب الثقافة ينطوي على اللغة، الدين، القيم، التقاليد، والعادات"[4]. وقد اهتم مالك بن نبي بالثقافة اهتماماً كبيراً، لِما لها من أهمية في حياة الفرد والمجتمع، ولما شاب هذه الكلمة من شوائب كثيرة تحتاج إلى تنقية، والثقافة عند ابن نبي هي نظرية في السلوك، أكثر منها نظرية في المعرفة، وبهذا يمكن أن يقاس الفرق الضروري بين الثقافة والعلم، والثقافة هي المحيط الذي يعكس حضارة معينة. لذلك عرفها: "الثقافة هي مجموعة من الصفات الخُلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته، كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه، والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته"[5]. وكما أنه لكل مجتمع ثقافته الخاصة التي يتسم بها ويعيش فيها، فإنه لكل ثقافة ميزاتها وخصائصها التي تحدد شخصيتها، كما أن للثقافة مقومات مادية ومقومات معنوية: فأما المادية فتتألف من طرائق المعيشة والأدوات التي يستخدمها أفراد المجتمع في قضاء حوائجهم والأساليب التي يصطنعونها لاستخدام هذه الأدوات، كذلك الأزياء وأسلوب الترفيه والتكنولوجيا كل هذا أمور تشملها الثقافة المادية، أما المقومات المعنوية للثقافة، فهي مجموعة العادات والتقاليد التي تسود المجتمع والتي يتوارثها أفراده جيلاً بعد جيل، مثل القانون والعرف والقيم والدين والآداب والعادات والتقاليد التي تسود المجتمع وتحدد علاقة أفراده بعضهم ببعض([6]).
غالباً هناك اتجاهين في تعريف الثقافة، أحدهما ينظر للثقافة على أنها تتكون من القيم والمعتقدات والمعايير والتفسيرات العقلية والرموز والأيديولوجيات، وما شاكلها من المنتجات العقلية "التحيزات الثقافية"، أما الاتجاه الآخر فيرى الثقافة على أنها تشير إلى النمط الكلي لحياة شعب ما، والعلاقات الشخصية بين أفراده وكذلك توجهاتهم"أنماط العلاقات الشخصية". أما عندما نود أن نرمز إلى تركيبة حية من العلاقات الاجتماعية والتحيز الثقافي فنحن نتحدث؛ إذن، عن نمط الحياة... فبين العلاقات والتحيزات علاقة تبادلية، وكل منهما تتفاعل مع الأخرى وتقويها، ذلك أن الالتزامات بأنماط معينة للعلاقات الاجتماعية يولد طريقة متميزة في النظر إلى العالم، كما أن رؤية العالم بطريقة معينة يبرز نموذجاً منسجماً معها للعلاقات الاجتماعية[7]. ذلك النمط الكلي لحياة شعب ما؛ الذي يُترجم إلى سلوك وصفات تميز المجتمع عن غيره، هو نفسه الذي يميز العلاقة بين الثقافة والمجتمع؛ التي تحكمها حقيقتين أساسيتين: إحداهما أن الإنسان كائن اجتماعي، أما الأُخرى فتتصل بالسلوك الإنساني الذي صدر في أشكال أو أنماط منتظمة، وفي صورة على قدر من الاطراد والتواتر. ذلك الاطراد والتواتر في السلوك الإنساني وفي الحياة الجمعية؛ هو ما دفع الباحثون في العلوم الاجتماعية إلى استخدام مفهومين ما زالا من المفاهيم الأساسية في الحقل الاجتماعي، وهما الثقافة والمجتمع. وكما أن مفهومي الحضارة والمجتمع متلازمين، فإن العلاقة بين مفهومي الثقافة والمجتمع وثيقة جداً نظرياً وفي الواقع الاجتماعي، وحتى لو أمكن التفرقة النظرية بينهما، إلا أن الظواهر التي يعبران عنها لا ينفصل بعضها عن بعض في الحقيقة والواقع. فالثقافة لا توجد إلا بوجود مجتمع، ثم إن المجتمع لا يقوم ويبقى إلا بالثقافة. إن الثقافة طريق متميز لحياة الجماعة، ونمط متكامل لحياة أفرادها. ومن ثم تعتمد الثقافة على وجود المجتمع ، ثم هي تمد المجتمع بالأدوات اللازمة لاطراد الحياة فيه، لا فرق في ذلك بين الثقافات البدائية والحديثة. بصفة عامة؛ إن الثقافة هي التي تميز بين فرد وآخر، وبين جماعة وأخرى، وبين مجتمع وآخر([8]). وما دامت الثقافة هي الطريقة التي يُصمم من خلالها أي مجتمع رؤيته للعالم ونموذج حياته، إذن يكون دور الثقافة في المجتمع هو: تنظيم الوظائف والدوافع الإنسانية في سلوك إنساني منظم طبقاً للافتراضات والاعتقادات الخاصة بكل جماعة. فالثقافة تعمل من خلال كائنات إنسانية وهم بدورهم، ومن خلال سلوكهم المنظم، يحاولون خلق النظام الاجتماعي، فالأسرة والمدرسة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى تحاول أن تعلم الأطفال الاعتقادات الرئيسية والافتراضات الأساسية النابعة من الدين والقانون والقيم والتقاليد، حتى يتعلم الطفل أن يكون سلوكه مقبولاً ممن حوله. فالنظام الاجتماعي في هذه الحال، يبدو وكأنه الطريق التي تصور شخصيات الأفراد المختلفة عندما تقبل وتترجم تعاليم الثقافة الخاصة بها، وتتعلم كيف تقوم بالممارسات المصدق عليها من الجماعة، والخاصة بالحياة النظامية باعتبارها وسيلتهم في الحياة. فالنظام الاجتماعي لا يظهر قوى كونية خارجية ولكن من أنماط السلوك الإنساني الذي تعضده قيم وتقاليد الجماعة([9]).
على ذلك؛ فإن الثقافة تلعب دوراً مهماً في حياة الفرد كعضو في المجتمع، فالمجتمع هو نتاج تفاعلات الأفراد والجماعات مع بعض، والثقافة هي القوة الدافعة لذلك التفاعل، بل هي القوة التي تحافظ على هوية المجتمع، من خلال ضبطها لعمليات الاكتساب عند الفرد والجماعة والمجتمع لكل جديد بشرط التوافق مع تراث وهوية المجتمع وعدم معارضته.
الحضارة هي الثقافة مكبرة:
تبين معنا من خلال الحديث عن العلاقة بين الحضارة والثقافة والمجتمع؛ أنه وإن كان من الممكن التفريق بينهما نظرياً إلا أن الظواهر التي يعبران عنها لا تنفصل عن بعضها في الحقيقة والواقع. على ذلك؛ هل هناك اختلاف بين كلمتي الحضارة والثقافة في المعنى والمضمون؟ وهل ممكن أن تشير كل منهما إلى معنيان مختلفان؟ أم أنهما متفقتان في المعنى والمضمون ويشيران إلى نفس الشيء؟ يرى الأُستاذ الدكتور جعفر شيخ إدريس؛ أن دارسوا الحضارات يكادوا أن يجمعوا على أن: الحضارة وإن تكونت من عناصر كثيرة، إلا أن أهم عنصر فيها هو العنصر الثقافي، وأن أهم عنصر في الثقافة هو الدين. وفي تلخيصه لأقوال من نقل عنهم صموئيل هنتنجتون في كتابه "صراع الحضارات" يوضح بإيجاز الفرق بين "حضارة" و"ثقافة"، بأن سائر المفكرين الغربيين يرون أن الحضارة والثقافة كليهما تشيران إلى منهاج حياة أمة من الناس، وأن الحضارة إنما هي الثقافة مكبرة، وأن كليهما يشمل القيم والمعايير والمؤسسات وطرائق التفكير السائدة في أمة من الناس وأن الدين هو أهم العناصر المكونة للحضارة، وأن الحضارة ليست متطابقة مع العِرْق؛ فأصحاب العرق الواحد قد ينتمون إلى حضــارات مختلفة، كمـا أن الحضـــارة الواحـــدة ـ كالحضارة الإسلامية ـ قد تضم مجتمعات مختلفة الأعراق والألوان والأشكال. والحضارة هي أوسع وحدة ثقافية؛ فأهل قريةٍ إيطاليّةٍ مثلاً قد يتميزون ثقافياً عن قرية إيطالية أخرى، لكنهم يشتركون في ثقافةٍ إيطاليةٍ تميزهم عن أهل القرى الألمانية. والألمان والإيطاليون ينتمون إلى ثقافة أوروبية تميزهم عن الجماعات الصينية والهندية. هذا الذي يجمع الأوروبيين هو حضارتهم التي تميزهم عن الحضارات الصينية والهندية. فالحضارة هي أعلى تجمُّع ثقافي للناس، وأوسع مستوى للهوية الثقافية لهم. وليس فوق الانتماء الحضاري للناس إلا انتماؤهم إلى الجنس البشري[10]. بمعنى آخر؛ يمكننا أن نقول: إن الحضارة أشمل وأعم من الثقافة على الرغم من أنهما لهما نفس العناصر والمكونات، ذلك لأن "الثقافة" تعني المحصلة الكلية للتراث الإنساني والاجتماعي سواء كان هذا التراث مادياً أو غير مادياً، بينما "الحضارة" تشير إلى نسق خاص منظم من الثقافة تتميز بالشمولية والاستمرارية ـ لا يحدد الشعب أو سلالة أو إقليم معين. فيمكننا أن نتحدث عن الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية والحضارة الأمريكية..إلخ، ذلك لأنها تتميز بالاستمرارية والشمولية واحتوائها لأكثر من بقعة وجنس معين ومن ناحية أخرى نقول ثقافة مصرية، وثقافة فرنسية ...إلخ. ويقصد هنا أسلوب الحياة الفكري والمادي الذي يكتسبه الإنسان في هذا المجتمع أو ذاك([11]). ومن المعنى الأخير الذي أشرنا إلى أنه هو الذي يميز بين الحضارة والثقافة؛ يكون الفارق بين الثقافة والحضارة بسيط جداً، على اعتبار أن الأولى جزء من الثانية، جزء من كل، ولا تعكس هذه الحقيقة العلمية، وإذا ما سألنا: لماذا هذه الحقيقة ليست علمية؟ أجابنا داعية وجوب تبني فلسفة إنسانية تقوم على الثقافة، الألماني هانز ألبرت شتيغر، أنه: لابد هنا أن نميز بين الثقافة بمعناها الحضاري، والثقافة بمعناها الذهني المجرد. ذلك ينقلنا إلى الحديث عن:
علاقة الثقافة بالتاريخ والوعي
يُجيب شتيغر: بأن ذلك هو جزء من الصراع بين الفلسفة والدين، فقد كان العداء هو الطابع العام الذي حكم علاقة الفلسفة بالدين، باستثناء فترات متقطعة من التاريخ، والفلسفات كانت تبحث دوماً عن مبدأ تعتمد عليه يساعدها على الانتشار، في الوقت الذي عجزت فيه أن تبني لنفسها حضارة تسمى حضارة الفلسفة كما كانت هناك حضارة الأديان. ولو أردنا التعمق أكثر في هذه الناحية لوجب أن نسأل ـ لماذا هناك حضارة "مسيحية" وحضارة إسلامية ولم تكن هناك حضارة نيتشة أو حضارة كيركيغارد؟ الأمر واضح هنا ويمكن أن يشكل ختام البحث. في الفلسفة لم يكن هناك أي اهتمام أن تتحول المعرفة إلى الممارسة .. المعرفة الفلسفية اُستخدمت كأداة للبحث والتحري ولم تستخدم وسيلة في الممارسة، والتعاليم الفلسفية ظلت بالمطلق من ناحية التطبيق، وإن اُستخدمت في تبرير أنظمة سياسية معينة .. وقيام مدارس في البحث والمنطق .. بينما عمدت الديانات كلها، الوضعية والسماوية ـ على حد سواءـ إلى الممارسة، فكان مقدار الولاء هو في مقدار التمسك بممارسة تلك التعاليم. ومن هنا نرى أن تمسك المسلم بدينه أدى إلى قيام حضارة إسلامية، تتشابك في أذهاننا فنسميها تارة حضارة إسلامية وتارة نسميها ثقافة إسلامية .. ولو بحثنا لوجدنا أن الفواصل تنهدم بين الثقافة والحضارة، وهي منهدمة بطبيعتها بين الثقافة والوعي .. ولذلك يمكن أن يتضمن التعريف أيضاً الحديث عن الوعي الإسلامي فنكون كمن يتحدث عن الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية .. وما ينطبق هنا ينطبق بالنسبة للحضارة "المسيحية" والثقافة المسيحية والثقافة اليهودية والحضارة اليهودية بمعنى الحضارة الأوسع والأشمل أي الالتزام وبناء شخصية متميزة. هكذا أصبح واضحاً معنا أن الثقافة والحضارة والمجتمع جميعها لها نفس المعنى والدلالة، واستعمال مفردة منها يدل على بقية المفردات، وعلى ذكر علاقة الثقافة بالوعي والممارسة، وأن الثقافة هي الوعي، قبل أن نتحدث عن علاقة الحضارة أو الثقافة أو المجتمع بالدين، سنتحدث عن دور التفاعل كشرط للحضارة، والفعالية كأحد أهم خصائص الحضارة الغربية. إذ يرى شتيغر أنه لا يمكن أن نفهم علاقة الثقافة بالتاريخ، والوعي قبل أن نكشف العلاقة بين الثقافة ومفهوم الدولة والسيادة. ذلك أن حصر معنى القومية والوطنية ضمن مفاهيم سيادة الدولة قد أثر إلى حد بعيد على تصورنا الحالي للثقافة التي هي الكل، وإن عوامل تكون تلك الثقافة إنما هي الممارسة. فبودين في تعريفه للسيادة الوطنية جعل الثقافة من أكبر عوامل المفهوم الحديث للدولة. وبذلك لا يمكننا فصل الثقافة عن المفهوم الوطني أو القومي والسياسي للمواطن. بمعنى آخر؛ لا توجد ثقافة وراء مفهوم المواطنة، الذي هو مفهوم ال انتماء وليس مفهوم الالتزام، فالمواطن يعتبر مواطناً لأنه ينتمي غريزياً وتلقائياً وطبيعياً بينما الالتزام هو حصيلة قناعة فردية محدودة الأبعاد أولاً، ومحدودة المراحل ثانياً، ثم هي محدودة الفعالية بحكم طبيعة ما نلتزم به كأفراد أو جماعات. وبهذا المعنى تكون كثير من حروب السيادة والاستقلال الأوربية وما سمي بالحروب الأهلية بين الشعوب الأوروبية هي في واقع الحال حروب ثقافية من الدرجة الأولى، لذا نحن في حاجة إلى إعادة دراسة التاريخ الثقافي لإعادة النظر في مفهومنا للثقافة، فالتاريخ والثقافة متلازمان لا يسبق الوعي فلا قيمة له إطلاقاً، لأن أي حدث يقع خارج دائرة الوعي لا قيمة له، ويشترط لكي يكون الحدث حدثاً بالفعل، وجود الوعي بذلك الحدث، والوعي لا يعني لا قيمة له. ويشترط لكي يكون الحدث حدثاً بالفعل، وجود الوعي بذلك الحدث، والوعي لا يعني المعرفة المجردة، لأنه لو كان كذلك لوجدنا الثقافة عملية جمع المعلومات فقط وحفظها لحين الحاجة، فالوعي هو الذي يفرق بين الثقافة والمعرفة. وكما أنه هناك فرق بين الثقافة وال معرفة، فإنه هناك فرق بين الثقافة الأكاديمية والثقافة ـ الممارسة. ففي الأولى تكون الثقافة جزء من التاريخ ، ونتاج التاريخ أيضاً، وفي الثانية تكون الثقافة هي الوعي، وهنا يمكننا القول أن الوعي بدأ قبل التاريخ، أي أن الوعي بالحدث هو الذي يدخل الحدث إلى التاريخ، وكذلك يمكننا القول أن التاريخ هو جزء من الثقافة .. أي أنه جزء من الوعي، ينجم عنه ويتأثر به. ويمكن اختصار العلاقة بين الثقافة والتاريخ، والعلاقة بين الثقافة والوعي، بأنه لا يمكن لإنسان أن يكون مثقفاً دون وعي، يمكن أن نسميه أي شيء ولكن ليس مثقفاً بالمعنى التاريخي والحقيقي للكلمة، لأن الثقافة "فعل إرادة"، ولا يتأتى ذلك بدون "الوعي".
ولكن ما علاقة كل ذلك بعلاقة الثقافة بمفهوم الدولة والسيادة؟ وبأنها جزء من الحضارة؟ في القرون الماضية اقترنت الثقافة بالفلسفة، مما أضفى على الفلسفة صفة التحليل والفوضى في الأسس دون اعتماد مبدأ تطبيق الممارسة، وقد عاش الفلاسفة في شبه أبراج عاجية يبشرون وينشرون أفكارهم في أواسط محدودة وضيقة.. ولما جاء عصر التنوير في أوروبا حولت تلك الفلسفات إلى شروح فقط، وصار هم الفرد المتعلم أن يقرأ الشروح حول فلسفة معينة بدل أن يمارس تلك الفلسفة.. وصار هم الدارس أن يجد ما يبرر أو يدعم فلسفة ما أو ينتقدها بدل أن يعيشها، لذلك ازدادت الفجوة بين الفلسفة والثقافة بمعنى الوعي. وأصبحت الثقافة تجميع وتحصيل المعلومات ولم تعد وعياً وصارت الثقافة التي تدور في فلك فلسفة ما؛ مجرد ثقافة تقريرية وليس تحليلية .. تهتم بالجامد والثابت بدل أن تهتم بالمغيرات على كل صعيد. ذلك ما ساد الواقع في الغرب في القرن التاسع عشر، ما أدى إلى نشوء شبه ثقافة "إقليمية" متعصبة لا تعرف معنى الانفتاح، كل همها هو الغوص في التاريخ، للبحث عن كل ما يدعم وجهة نظر فلسفة ما من الفلسفات التي رافقت نشوء القوميات في الغرب، فتلك الفلسفات أدت إلى اعتبار الاستقلال الثقافي هو من مظاهر وعناصر اكتمال الشخصية القومية، فأدى ذلك إلى انتشار روح التعصب والتشنج في تطبيق تلك المفاهيم، وكثر الحديث عن الاستقلال السياسي والاستقلال الثقافي. ذلك هو جزء من الصراع بين الفلسفة والدين، فقد كان العداء هو الطابع العام الذي حكم علاقة الفلسفة بالدين، باستثناء فترات متقطعة من التاريخ، والفلسفات كانت تبحث دوماً عن مبدأ تعتمد عليه يساعدها على الانتشار، في الوقت الذي عجزت فيه أن تبني لنفسها حضارة تسمى حضارة الفلسفة كما كانت هناك حضارة الأديان. ولو أردنا التعمق أكثر في هذه الناحية لوجب أن نسأل ـ لماذا هناك حضارة "مسيحية" وحضارة إسلامية ولم تكن هناك حضارة نيتشة أو حضارة كيركيغارد؟ الأمر واضح هنا ويمكن أن يشكل ختام البحث. في الفلسفة لم يكن هناك أي اهتمام أن تتحول المعرفة إلى الممارسة .. المعرفة الفلسفية اُستخدمت كأداة للبحث والتحري ولم تستخدم وسيلة في الممارسة، والتعاليم الفلسفية ظلت بالمطلق من ناحية التطبيق، وإن اُستخدمت في تبرير أنظمة سياسية معينة .. وقيام مدارس في البحث والمنطق .. بينما عمدت الديانات كلها، الوضعية والسماوية ـ على حد سواءـ إلى الممارسة، فكان مقدار الولاء هو في مقدار التمسك بممارسة تلك التعاليم. ومن هنا نرى أن تمسك المسلم بدينه أدى إلى قيام حضارة إسلامية، تتشابك في أذهاننا فنسميها تارة حضارة إسلامية وتارة نسميها ثقافة إسلامية .. ولو بحثنا لوجدنا أن الفواصل تنهدم بين الثقافة والحضارة، وهي منهدمة بطبيعتها بين الثقافة والوعي .. ولذلك يمكن أن يتضمن التعريف أيضاً الحديث عن الوعي الإسلامي فنكون كمن يتحدث عن الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية .. وما ينطبق هنا ينطبق بالنسبة للحضارة "المسيحية" والثقافة المسيحية والثقافة اليهودية والحضارة اليهودية بمعنى الحضارة الأوسع والأشمل أي الالتزام وبناء شخصية متميزة ([12]). ذلك خلاصة بحث كتبه شتيغر يربط فيه بين الثقافة والتاريخ والوعي ذاماً فيه الفلسفة التي عجزت عن صنع حضارات لها، ولكنها صنعت قوميات ودول شوهت مفهوم الثقافة، وأنشأت ثقافات وطنية متعصبة ضيقة الأفق، باسم الاستقلال السياسي والاستقلال الثقافي، على الرغم من أنها تنتمي في الوقت نفسه إلى ثقافة أشمل وأوسع، هي الثقافة الغربية. وأن ذلك هو الفارق البسيط جداً الذي يميز بين الحضارة والثقافة ويجعل الثانية جزء من الأولى. ذلك الذي حدث في الغرب وكان نتيجة لحروب الاستقلال الأوروبية، ونتيجة للتغيرات التي صاحبت عصر النهضة الأوروبية، هو نفسه الذي يعيشه وطننا بعد عقود الاستقلال القطري الذي رسمت حدوده اتفاقية سايكس ـ بيكو ، حيث سعت الأنظمة القطرية إلى خلق قسري لما يسميه رياض نجيب الريس " ثقافة الكيانات الحضارية القروية" كجزء من المحاولات المعقدة، من الداخل والخارج، لإبقاء العرب مجزئين([13]). وليت الخطر على وجودنا كأمة وقف عند ذلك الحد؛ لا! فأقطار سايكس ـ بيكو إلى جانب سعيها الحثيث لتكوين ثقافة قطرية مشوهة" ثقافة الكيانات الحضارية القروية"، وتكريس حدود التجزئة الجغرافية نفسياً، فقد عمل فيها الغرب المستكبر وأنصاره طوال عقود الاستقلال الشكلي التي مضت، على خلق كيانات ثقافية عشائرية محلية، من أجل تهيئة أوضاع تلك الأقطار في الوقت الذي ستعولم فيه ثقافتها وثقافة العالم، لمزيد من التشطير والتفتيت، وإضعاف الأمة، ذلك ما أعلنت عنه وزيرة خارجية الولايات المتحدة التوراتية أثناء العدوان على لبنان في تموز/يوليو 2006: أن اتفاق سايكس ـ بيكو لم يحقق أهدفه.
هكذا أصبح واضحاً معنا أن الثقافة والحضارة والمجتمع جميعها لها نفس المعنى والدلالة، واستعمال مفردة منها يدل على بقية المفردات، وعلى ذكر علاقة الثقافة بالوعي والممارسة، وأن الثقافة هي الوعي، قبل أن نتحدث عن علاقة الحضارة أو الثقافة أو المجتمع بالدين، سنتحدث عن دور التفاعل كشرط للحضارة، والفعالية كأحد أهم خصائص الحضارة الغربية.
[1] - نظرية الثقافة ، مجموعة من الكتاب الغربيين، ترجمة الدكتور / علي سيد الصاوي، مراجعة وتقديم الأستاذ فاروق زكي يونس، كتاب عالم المعرفة، (223) سلسلة كتب ثقافية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والآداب، الكويت ، صفر 1418هـ يوليو / تموز 1997، المقدمة ص9-10 .
[4] صامويل هنتنجتون، "الغرب إنه فريد ولكنه ليس كلياً جامعاً"، عن مجلة فورين أفيرز الأمريكية، ترجمة فاضل جكتر، مجلة "الرسالة"، دورية متخصصة، تصدر عن المركز العربي للدراسات الإستراتيجية، العدد الرابع، أغسطس/آب 1997.
[5] شروط النهضة، مرجع سابق، ص89.
[10] جعفر شخ إدريس (أستاذ دكتور)، العولمة وصراع الحضارات، مجلة البيان................
[12] هانز ألبرت شتيغر "الثقافة ، جسر عبر الحدود" ترجمة سليم سالم ، مجلة الثقافة العالمية، دورية تصدر كل شهرين عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت، العدد (2) السنة الأولى، المجلد الأول، ربيع الأول 1402هـ - يناير / كانون الثاني 1982م .