الخميس، 24 نوفمبر 2011

معركة المفاهيم والمصطلحات في واقعنا العربي الاسلامي 3

الثقافة والمدنية  Civilization & Culture
أما إذا أخذنا بالترجمة العربية لكلمة Culture أنها تعني "ثقافة"، وترجمة Civilization أنها تعني "حضارة"، ففي هذه الحال تصبح كلمة "ثقافة" تعني الجانب الذهني والمعنوي في حياة المجتمع، وكلمة "حضارة" تعني الجانب المادي. ويرى الأُستاذ (ساطع الحُصري) أن مفهوم الحضارة يتصل بمفهوم الثقافة اتصالاً وثيقاً، غير أنه يكون ـ بطبيعته ـ أوسع نطاقاً منه وأكثر شمولاً... لأن الثقافة تنحصر بالأمور الذهنية والمعنوية وحدها، في أن الحضارة تشمل الأمور والوسائل المادية أيضاً. والحضارة تتمثل بأحسن الصور وأجلاها العلوم والصنائع بوجه عام، وأما الثقافة فتظهر بأجلى مظاهرها في اللغات والأدب بوجه خاص. ولهذا السبب نجد أن الحضارة تكون بطبيعتها قابلة للانتقال من أمة إلى أخرى بسهولة. وقابلة للانتشار بين الأمم بسرعة، وأما الثقافة فتبقى خاصة بكل أمة وحدها، وإن أثرت ثقافات الأمم المختلفة بعضها في بعض، قليلاً أو كثيراً، حسب الظروف والأحوال. أما الأُستاذ إسماعيل القباني، يرى "إن مدلول الثقافة يشمل أسلوب الحياة في الأمة والجماعة كلها، بجميع مظاهره، فهو ينصب على الكيفية التي يمارس الناس بها وجوه النشاط المختلفة في البيئة التي يعيشون فيها: كيف يأكلون، وماذا يلبسون، وكيف يبنون مساكنهم، وبم يشتغلون كسب قوتهم، وكيف ينتقلون من مكان إلى مكان، وكيف يتراسلون، وكيف يتزوجون، وكيف يدفنون موتاهم، وكيف يقضون أوقات فراغهم، وما هي أفكارهم ومعتقداتهم، ودوافعهم وما هي آرائهم وفنونهم"[1]. وقد اعتبر الحُصري ذلك المعنى الواسع جداً للثقافة يقابل كلمة حضارة في مفهومها الأمريكي الذي يشمل الجانب المعنوي والذهني "الثقافة" والجانب التنظيمي والإداري والمادي "الحضارة والمدنية". كما تعني الكلمة في بعض المفاهيم الغربية كالفرنسية والألمانية.
هذا المفهوم الواسع لمعنى الثقافة؛ أكد عليه الدكتور صلاح قنصوة في مقدمته لكتاب صموئيل هنتنجتون "صراع الحضارات"، حيث قال: "إن الثقافة هي الكل المعقد المتشابك من أساليب الحياة الإنسانية والمادية وغير المادية ـ الفكرية والمعنوية أو الروحية ـ التي ابتذرها الإنسان واكتسبها ولا يزال يكتسبها بوصفه عضواً في جماعة أو مجتمع في مرحلة معينة من تاريخ تطوره تقدماً كان أو تدهوراً .. وللثقافة جانبان روحي أو غير مادي وهو الذي ينظم القيم والمعايير والنظم والاعتقادات والتقاليد، والمادي وهو الذي يتمثل بالتجسيد المحسوس للجانب المعنوي فيما يصاغ منه أدوات ومنشآت وهو الذي نسميه حضارة إذا ما كانت الجماعة المعينة مستقرة"[2]. وأخيراً تذكر الموسوعة الفلسفية أن الثقافة في اللغة الألمانية، وفي الأدبيات الأمريكية، كأمثلة للمقارنة؛ تستعمل مرادفاً لكلمة "حضارة"، لأن مفهومها ينطوي على معنيين: أحدهما ذاتي هو ثقافة العقل، وثانيهما موضوعي هو جملة الأحوال الاجتماعية والمنجزات الفكرية والفنية والعلمية والتقنية وأنماط التفكير والقيم السائدة، أي كل ما يتداوله الناس في حياتهم الاجتماعية من مكتسبات تحصل بالتأقلم والتعلم ... وهكذا تكون الثقافة وعاءً شاملاً لأنماط الإنتاج الفكري والإبداعي للمجتمع في مختلف أشكاله المعنوية والمادية، مما يجعلها تجسد رؤيته للعالم، وتمثل خلاصة ذاكرته الجماعية عبر تراثه الذي ظل حياً، كما تشكل منظومة قيم هذا المجتمع ورؤية أفراده للكون[3]. 
الحضارة والمجتمع
بداية سنحاول تقديم تعريف للمجتمع قبل أن نتحدث عن علاقته بالحضارة، ومعلوم أن الغربيين اختلفوا في تحديد تعريف واضح للمجتمع، وذلك راجع للأسباب التي سبق أن قدمناها عن الغرب وعلومه ، ولكن أكثر النظريات قبولاً في تعريف المجتمع، تلك النظرية التي عرفت المجتمع (على أنه نوعاً من الكائن العضوي، أي ينظر إلى المجتمع كنسق بيولوجي أو كائن أكبر ويشبه في تركيبته ووظائفه وفي أجزائه جسم الإنسان أو الفرد ويتعرض بقوانين مشابهة في اضمحلاله ... والتشبيه مجازي، لأنه يمكننا، لأنه لا يمكننا القول أننا ننتمي إلى المجتمع كما ننتمي لأعضاء الجسم"([4]). وبحكم أن العلاقة تبادلية بين الفرد والمجتمع والحضارة أو الثقافة؛ فقد قدمت بعض الدراسات تعريفات تربط بينها جميعاً فقد عرف رالف لنتون المجتمع بأنه عبارة عن مجموعة منظمة من الأفراد وأن المجتمع يستمر في البقاء طالما بقي أفراد من ذلك المجتمع أحياء إما بطريق التناسل أو بضم عناصر جديدة من السكان إليه، ويرى بعض علماء الاجتماع المحافظين أن المجتمع هو مجموعات من الأفراد تحاول أن تربط بعضها ببعض بواسطة وسائل وطرق مبتكرة([5]). وهناك من يرى أنه لابد أن يكون للمجتمع وجود ميتافيزيقي يشد حنين الفرد وتطلعاته إليه، ويكون فيه أخلاق طبعية تسهر على التعاون وتدفع للإسهام في البناء الاجتماعي أقوى من دافع الحاجة والوجود المادي. أي أن روحاً عليا يجب أن تسود المجتمع باسم دين من الأديان أو باسم القومية، أو الكرامة الإنسانية استجابة لقدي شعب خارجي أو ما شابه ، فوحدة الربط داخل المجتمع ليست مادية تخضع للتقدم التقني المتكامل المتماسك أو للحاجة الفردية([6]).ويعرفه المفكر المسلم الجزائري مالك بن نبي من حيث أن للمجتمع دور وظيفي؛ هو ليس مجرد مجموعة من الأفراد، بل هو تنظيم معين ذو طابع إنساني يتم طبقاً لنظام معين. وهذا النظام في خطوطه العريضة يقوم بناء على ما تقدم على عناصر ثلاثة: حركة يتسم بها المجموع الإنساني، وإنتاج لأسباب هذه الحركة، وتحديد لاتجاهها.[7] 
أما عن العلاقة بين الحضارة والمجتمع؛ فهناك من لا يعتبر أن المجتمع في حقيقته مغايراً للحضارة أو متميزاً عنها، لأن معظم حياة الإنسان تدور حول علاقات وتفاعلات المجتمع والحضارة، إلى درجة يصعب فيها التفريق بينهما، فالحضارة والمتجمع يستعملان كمترادفين في غالب الأحيان، وكلاً منهما ظاهرة من نوع خاص، لها ميزتها الخاصة ودورها. فالبعض قد فرق بينهما؛ مثل ألفرد فيبر، من حيث أن المجتمع هو مجموع الظواهر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأن الحضارة هي الفن والدين والفلسفة. وبذلك تكون الحضارة وجه من وجوه المجتمع وصفة من صفاته([8]). وكذلك رالف لنتون؛ فهو على الرغم من اعتباره أن الحضارة والمجتمع شيئان متلازمان إلا أنهما ظاهرتان من نوعين مختلفين يتصلان ببعضهما عن طريق الأفراد الذين يتكون منهم المجتمع ويفصح عن نوع حضارته. فالمجتمع عبارة عن مجموعة منظمة من الأفراد، والحضارة مجموعة منظمة من الاستجابات التي تعلمها الأفراد وأصبحت من مميزات مجتمع معين. وإن كان لكل فرد شعوره المستقل وأعماله المستقلة، إلا أن هذا الاستقلال يتحدد واستجاباته تتعدل تعديلاً أساسياً نتيجة اتصاله بالمجتمع والحضارة التي ينشأ ويشب فيها[9]. إلا أن العلاقة الوحيدة التي يمكن تصورها بين المجتمع والحضارة هي علاقة تداخل بين المجالين. ذلك ما لاحظه كروبر عند كثير من المفكرين الاجتماعيين، حيث خلطوا بين المجالين. ذلك التداخل والخلط بين الحضارة والمجتمع وحتى الثقافة؛ نجده أوضح في تعريف المؤرخ الأمريكي ول ديورانت للحضارة، حيث يمزج بين الحضارة والمجتمع، معتبراً: "الحضارة هي نظام اجتماعي يُعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي بعناصر أربعة: الموارد الاقتصاديةـ النظم السياسيةـ العقائد الخلقيةـ متابعة العلوم والفنون"[10]. أما مالك بن نبي يرى؛ أن الشروط الأولية للحضارة (الإنسان والتراب والوقت) ترتبط بعلاقة عضوية أساسية تتجلى في كل عنصر من عناصر المجتمع الثلاثة لتؤكد وحدة تأثيره منفرداً في بناء العلاقات الاجتماعية، كما تتجلى في علاقته بالعنصرين الآخرين لتؤكد وحدة تأثيرها مجتمعة. وهي تتجلى بصفة خاصة في الإطار الشخصي للفرد، حين تقدم له بصورة ما جوهر نظام علاقاته الاجتماعية[11].  فالفرد يحقق ذاته إرادة وقدرة ليستا نابعتين منه، بل ولا تستطيعان ذلك، وإنما تنبعان من المجتمع الذي هو جزء منه[12].
يمكننا القول: أن المشترك بين الحضارة والمجتمع؛ هو النظام الاجتماعي أو البناء الاجتماعي، الذي يتكون من مجموع النظم الاجتماعية التي تحكم حياة أفراد المجتمع، وكل نظام منها يتكون من مجموعة من القيم التي تحدد هوية المجتمع وتميزه عن غيره، كما أن كل نظام من تلك النظم يعكس قيمه في مجموعة من المعايير التي قد تكون مكتوبة فتأخذ شكل القوانين، أو غير مكتوبة فتأخذ شكل العرف أو التراث. ويعكس أيضاً كل نظام بدوره مجموعة من التنظيمات الاجتماعية التي يسلك الفرد داخلها أنماط من السلوك تعكس العادات الاجتماعية أو الطرائق الشعبية، والتي تعكس بدورها هي الأُخرى ، تجاهات الفرد نحو النظام[13]. تلك النظم وما ينبثق عنها من قيم ومعايير؛ هي التي تحدد تصورات أي مجتمع عن طبيعة الإنسان، والحياة والكون، وعلاقاته بكل ما يحيط به في مجتمعه وفي العالم أجمع، فهي التي تحدد معتقدات وأفكار الجميع وهي التي ترسم وتحدد نوع السلوكيات والأخلاق، باختصار تلك النظم هي نوع الهوية والثقافة لأي مجتمع، لأن الذي يحدد نوع النظام الاجتماعي نفسه هو نوع الحضارة كما يقول رالف لنتون: (تعترف كل المجتمع بوجود أنظمة رسمية من العلاقات يحددها نوع الحضارة، وتتقبلها الأفراد طواعية واختياراً) ([14]).
سواء كانت الحضارة والمجتمع ظاهرتان من نوعين مختلفين، أو كانا شي واحد، فلا يختلف الباحثون والمفكرون على أن البناء الاجتماعي بنظمه المختلفة هو المشترك بينهما، وأن نوع الحضارة هو الذي يحدد نوع وهوية ذلك البناء الاجتماعي ونظمه التي ينبثق عنها قيم ومعايير المجتمع التي يؤمن بها الأفراد ويمارسونها في حياتهم الخاصة والعامة، فالحضارة نظم ، والنظم هو منهج حياة، ذلك ما يقربنا من اعتبار الحضارة بهذا المفهوم هي دين المجتمع، وذلك ما دفع الأستاذ محمد قطب إلى القول: لسنا ملزمين بمجاراة الجاهلية الأوروبية في مصطلحاتها، إنما نقول "الحضارة" هي الجانب المعنوي الذي يحمل القيم، والجانب المادي والتنظيمي على السواء. أي أنها دين، لأن النظم السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.. والقيم والمبادئ .. هي الدين)([15]). لأن كل نظام ـ أي كل مذهب ـ لا بد أن ينطوي على عقيدة، ولا يمكن تصور مذهب بلا عقيدة، وأن من الممكن تصور عقيدة بلا مذهب، وكل مذهب يقوم دائماً على تصور اعتقادي يرتقي بالفرد إلى مستوى الإيمان بالمذهب، ويفرض مجموعة من القيم والمبادئ الأساسية التي لا غنى عنها[16].



[1] أبو خلدون ساطع الحصري، حول الوحدة الثقافية العربية، الأعمال الكاملة لساطع الحصري (12)، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة التراث القومي، بيروت، ط2، آب/ أغسطس 1985، ص19-20.
[2] أحمد ناجي أحمد، صدام الحضارات وثقافة التعبئة، ورقة مقدمة إلى الندوة التي نظمها "المركز العام للدراسات والبحوث والإًصدار" خلال الفترة 12ت16 يونيو 2002/، بعنوان: "الأصوليات الدينية وحوار الحضارات"، الجزء الأول، الطبعة الأولى 2002، ص64.
[3]  سليمان إبراهيم العسكري، "الثقافة في زحام الإصلاح"، مجلة العربي، مجلة شهرية ثقافية مصورة، تصدرها وزارة الإعلام بدولة الكويت، العدد (561)، أغسطس 2005.
[4] - محمد بيومي، المجتمع والثقافة والشخصية، دراسة في علم الاجتماع الثقافي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ص8-9 .
[5] - رالف لنتون "دكتور"، شجرة الحضارة، ترجمة: أحمد فخري، الجزء الأول، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص65-68 .
[6] - يوسف الحوراني، الإنسان والحضارة، منشورات المكتبة العصرية ، بيروت ـ صيدا ـ الطبعة الثانية، 1973م ، ص17 .
[7]  مالك بن نبي، ميلاد مجتمع شبكة العلاقات الاجتماعية، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، ص15.
[8] - زكريا فؤاد ، ص11 .
 [9] رالف لنتون، مرجع سابق، ص65 ، 71.  
[10] علي هود باعباد (أستاذ دكتور)، "التربية والثقافة الإسلامية"، الثقافة الإسلامية، مجموعة من الكتاب، دار الفكر المعاصر، بيروت، الطبعة الخامسة، 1994، ص410.
[11] ميلاد مجتمع، مرجع سابق، ص26 ،27.
[12]  مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة الدكتور بسام بركة والدكتور أحمد شعبو، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى 1413ه-1993م، ص42.
[13] محمد أحمد بيومي "دكتور"، المجتمع والثقافة والشخصية دراسة في علم الاجتماع الثقافي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ص 16ـ18.
[14] - رالف لنتون، مرجع سابق، ص70.
[15] - محمد قطب، واقعنا المعاصر، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1418ه-1979م، ص94، وص325.
[16]  سليمان الخطيب، مرجع سابق، ص137.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق