معركة المفاهيم
الحضارة .. الثقافة .. العولمة .. الدين
وجهة نظر 2
منشأ الاختلاف
اختلفت الترجمات العربية لمعاني ومفهوم ومدلول كلمتي Civilization & Culture الغربيتين، وما يقابلهما في ديننا الإسلامي ولغتنا العربية وتاريخنا الاجتماعي، حيث تم ترجمتها إلى ثلاثة كلمات (حضارة، ثقافة، مدنية). ومنشأ الاختلاف في تعريف تلك المصطلحات هو أن تلك الكلمات في الأصل كلمات غربية وليست عربية، وعندما نقلها لنا من نقلها ترجمها لنا ترجمة حرفية بدلالاتها ورمزيتها في لغتها الأصلية، دون أن يبين أو يتبين أوجه الاختلاف بين تلك المصطلحات التي تتناسب والمجتمع الغربي والثقافة الذي نشأت فيها وتم التعارف عليها من خلالها، وبين المجتمع الإسلامي الذي يختلف اختلافاً واضحاً في نشأته وثقافته وتطوره عن المجتمع الغربي. فالمجتمع الغربي له خصوصيته منذ نشأته الأولى، تلك الخصوصية صاحبته عبر مراحل تاريخه وتطوره، وهي: أنه نتاج الجهد والعقل البشري وليس نتاج المنهج السماوي، حتى تلك الحقبة الزمنية التي حكمت فيها الكنيسة باسم الدين السماوي؛ كان ذلك الدين السماوي قد اختلط بأديان البشر وتسربت له كثير من معتقداتهم، حتى أخرجته عن سماويته وحولته إلى دين وثني، وعندما تخلص المجتمع الغربي من سطوة وسيطرة الكنيسة نهاية العصور الوسطى الأوروبية، انتكس انتكاسات مدمرة إنسانياً في إلحاده ووثنيته، إلى أن وصل به الحال إلى ما نحن عليه الآن من وثنية بشرية، ودين "أخلاق السوق" كما وصفه المفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي. ففي الغرب يُعرفون الثقافة؛ كما يقول مالك بن نبي: على أنها تراث (الإنسانيات الإغريقية اللاتينية)، بمعنى أن مشكلتها ذات علاقة وظيفية بالإنسان: فالثقافة على رأيهم هي: (فلسفة الإنسان). ونفس الأمر حدث في الاشتراكية، حيث يطبع تفكير ماركس كل القيم، عرف (يادانوف) الثقافة ـ في تقريره المشهور الذي قدمه للحزب الشيوعي في موسكوـ على أنها ذات علاقة وظيفية بالجماعة، فالثقافة هي: فلسفة المجتمع[1]. كما أن منشأ الاختلاف يعود إلى الترابط العضوي والتداخل بين كلمات مثل: الحضارة والمدنية والثقافة والمجتمع والتاريخ والوعي والدين، فكلها قد تترادف، وقد تكون إحداها جزء من كل، أو قد تكون صفة ملازمة للأُخرة..إلخ. أضف إلى ذلك أن ترجمة كلمتي Culture & Civilization من لغاتها الأوروبية إلى اللغة العربية؛ حدث فيه اختلاف واضح وبيّن. أضف إلى ذلك أن هناك من اعتبر الحضارة صفة للإنسان بوجه عام، وأنه ما من شعب أو جماعة أو مجتمع إلا كان له نصيب كثُر أو قل من الحضارة، وأن الحضارة خاصة بمجتمع الإنسان دون الحيوان وغيره من المخلوقات الأخرى على الأرض، وهناك من أدخل عالم الحيوان ضمن مفهوم الحضارة، واعتبر أن بعض حياة الحيوانات فيها نظام حضاري.
مما سبق يتضح أن هناك من ضيق مفهوم ومدلول كلمة "حضارة" وهناك من وسع ذلك المفهوم وجعله شاملاً لجميع نواحي الإنتاج الإنساني العقلي والمادي. وهناك من اعتبرها مرادفاً لكلمة "ثقافة"، وهناك من اعتبر الثقافة جزء من الحضارة، وهناك من اعتبر أن كلمة "حضارة" تشير إلى جانب في حياة المجتمع وكلمة "ثقافة" إلى جانب آخر. وهكذا، وكل ذلك ناشئ بسبب أن هذه الكلمات في أصلها ليست عربية، ولا هي من إنتاج تاريخنا الاجتماعي وتطوره، وليس لعجز ديننا أو لغتنا العربية عن إيجاد معاني دقيقة مقابلة لها، ولكن بسبب عجز من قاموا بترجمتها وتعاطيهم مع العلوم التي نشأت فيها تلك الكلمات بإلغاء العقل والتاريخ والخصوصية والتسليم بها وكأنها مُنَزّلة، دون النظر إلى الاختلافات التي تميز تلك المجتمعات والبيئات الدينية والفكرية التي نشأت فيها عن مجتمعنا وديننا. ولكي نحاول توصيل الفكرة أو المعنى الخاص بنا، الذي نراه مقابل لجميع تلك المعاني سنتحدث عن العناوين التالية:
ـ اختلاف الترجمات العربية لكلمتي Culture & Civilization
ـ الحضارة والمجتمع ـ الثقافة والمجتمع ـ الحضارة هي الثقافة مكبرة
ـ علاقة الثقافة بالتاريخ والوعي ـ التفاعل والفعالية ـ الحضارة "الثقافة" والدين
ـ تعريف الدين ودوره الوظيفي في الغرب ـ الفارق بين الثقافة الإسلامية والغربية
ـ الحضارة هي الحضور والشهود إسلامياً.
الحضارة والمدنية Civilization & Culture
تبدأ الصعوبة في تحديد معنى واحد لمدلول كلمة الحضارة والمدنية في اللغة العربية إلى أن هناك من ترجم الكلمة Culture على أنها تعني حضارة، والكلمة Civilization على أنها تعني المدنية، ومن أخذ بهذا التفسير أو تلك الترجمة، اعتمد على أن هناك تباين شديد في آراء المفكرين حول مدلول كل كلمة، وأن هناك تمييز عندهم بين معنى الحضارة والمدنية، فالحضارة تعني الظواهر الثقافية والمعنوية في حياة أي مجتمع، والمدنية تعني الظواهر المادية في حياة المجتمع. وقد فرق البعض بين الكلمتين؛ على اعتبار أن الحضارة ترتبط بالمُثل السائدة في المجتمع، التي تجمع بين أفراد المجتمع كله في وحدة معنوية واحدة، والبعض ربط المدنية بالأوجه العملية والمادية لحياة المجتمع. وهناك من فرق بينهما على أساس أن المدنية تتعلق بالوسائل، والحضارة تتعلق بالغايات مثل ماكيفر فالمدنية تشتمل على مظاهر التقدم الصناعي والاقتصادي، والحضارة ترتبط بالقيم الإنسانية الكامنة، التي هي غايات مقصودة لذاتها. إلا أن البعض رأى أنه يستحيل أن يجعل من هذه التفرقة أساساً للتمييز بين الحضارة والمدنية، لأنها لم تفلح في التمييز بين الوسيلة والغاية في ميداني العلم والنشاط الاقتصادي. أما ألفرد فيبر فقد وضع أساساً آخر للتمييز بين المدنية والحضارة، على أساس أن المدنية تقبل أن تنقل وتتوارث من جيل إلى آخر، وكل جيل يبدأ في مدنيته عند النقطة التي انتهى إليها الجيل السابق، فالمدنية تراكمية، ثم إن المدنية في وسع سائر الشعوب اقتباسها، أما الحضارة فهي إنتاج مستقل يصعب انتشاره من مجتمع لآخر. كما يصعب القول فيها أن الأجيال اللاحقة يمكنها أن تتفوق فيه على الأجيال السابقة. وهذا الرأي أيضاً للبعض عليه ملاحظات[2].
وغالباً بدأ التمييز بين الحضارة والمدنية في المدرسة الألمانية والفرنسية، ففيلسوف الحضارة الغربية الألماني (أزوالد شبنجلر)، صاحب نظرية صعود وسقوط الحضارات، الذي تنبأ بانهيار وتدهور الحضارة الغربية ووصولها لنهايتها، وبغض النظر عن وجهات النظر المؤيدة والمعارضة لهذه النظرية، قد جعل لكل حضارة مدنيتها الخاصة معتبراً أن المدنية Civilization هي نهاية مطاف الحضارة، وأنها المصير المحتوم للحضارة، والمدنية عند شبنجلر هي، نتيجة الشيء "يصير"، يخلف الشيء في حالة الصيرورة، إنها الموت يتبع الحياة، فهو يرى أن حيوية الإنسان الحضاري تتجه في مجراها إلى الباطن، أي أنها تهتم بالجانب الذهني والمعنوي والعقلي والأخلاقي في حيان الإنسان والمجتمع، الذي يمثل الجانب الأقوى في أي أمة، ويحافظ على استمرار قوتها وتماسكها وتقدمها. بينما تتجه حيوية الإنسان المدني إلى الخارج، أي للاهتمام بالجانب المادي وتوفير الرفاه والراحة للإنسان، وإشباع حاجاته ورغباته، وذلك يؤدي إلى تراجع في الجانب الأول الذي هو أصل الحضارة، مما يؤدي إلى الانحلال والتراخي الخلقي والاجتماعي وغيره، الذي يؤدي إلى تدهور تلك الحضارة وسقوطها ونهايتها. وبذلك تكون Culture عند شبنجلر هي الحضارة أي الجانب الذهني والمعنوي وCivilization هي المدنية أي الجانب المادي[3]. في حين يرى البعض أن العرف جرى على اعتبار أن لفظي "المدنية والحضارة" مترادفين عربيين لمفهوم كلمة Civilization، ولكن العلوم الإنسانية الحديثة تقصر مصطلح المدنية على المستوى الراقي من حياة المجتمع المادية التي تتمثل في العمران وتخطيط المدن وتنظيمها وتوافر مرافقها، والتنوع والتفنن في مطالب الحياة الضرورية والكمالية، من مأكل ومشرب، وملبس، ومسكن وترويح للنفس. أما الحضارة: فمصطلح يطلق على النواحي الفكرية والخُلقية والاجتماعية من حياة المجتمع، التي تتمثل في العلوم والآداب والفنون ونظم الحكم ودساتير السلوك والآداب والتقاليد والأخلاق العامة والعقيدة الدينية. ولقد رأى البعض أن معنى الحضارة يشمل نتاج العقل والفكر ممثلاً في الكتب والصور والعقائد والمعارف والنظم الاجتماعية والسياسة والمعاني الضخمة الجميلة والسلوك الحميد ووسائل النقل والسفر..إلخ. ومعنى هذا أنها تشمل الدين واللغة والأخلاق والعلوم والفنون والصناعات والعادات، فهي إذن ثقافة أو طابع يتسم به جماعة كبيرة من الناس فترة من الزمان. وعلى ذكر الثقافة، فإن معظم الباحثين اليوم يتفقون على أن كلمة ثقافة عندنا ـ في اللغة العربية ـ تقابل ما يسميه الغربيون Culture، فبين اللفظين شبه في أصل المعنى، وكلتاهما تعني التهذيب والتربية والتنمية، ومن هنا أصبح المدلول العام لكل من هاتين الكلمتين العربية والإفرنجية الجانب الروحي المعنوي من حياة الفرد والجماعة([4]).
[1] مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة: عمر كامل مسقاوي، عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، الطبعة الرابعة 1407ه ـ 1987، ص88.
[2] - فؤاد زكريا "دكتور"، الإنسان والحضارة في العصر الصناعي، الناشر مركز كتب الشرق الأوسط، الطبعة الثانية، من ص12 إلى 20.
[3] - أوزالد شبنجلر ، تدهور الحضارة الغربية، الجزء الأول ، ترجمة أحمد الشيباني، دار مكتبة الحياة، لبنان، يراجع من ص87 وما بعدها.
[4] - زكريا هاشم زكريا، فضل الحضارة الإسلامية والعربية على العالم، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الفجالة ـ القاهرة، ص52-55.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق