معركة المفاهيم
الحضارة .. الثقافة .. العولمة .. الدين
وجهة نظر 1
أ. مصطفى أنشاصي*
تأخذ المفاهيم والمصطلحات حيزاً كبيراً في صراع الأمة مع الآخر، وقد غدا ما بات يعرف باسم "معركة المفاهيم" تشكل جزء مهم من معركة الآخر معنا، ما يدعونا إلى الاهتمام بهذا الحقل المهم من صراعنا مع الآخر. ففي العقدين الأخيرين اشتدت الهجمة اليهودية الصليبية على الأمة والوطن، وأسفرت عن بشاعة وجهها وأهدافها وغاياتها، وقد اتخذت طابعاً جديداً قديماً إلى جانب شموليتها التي بدأت مع الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام عام 1798م، فقد عادت الهجمة إلى أُسلوبها القديم الذي هو العنصر الرئيس في الثقافة الغربية، ألا وهو: الاحتلال واستخدام القوة العسكرية ضد الآخر، لفرض نظمها ومناهجها وقيمها عليه بالإكراه؛ ومواصلة الهيمنة والنهب لثروات الشعوب والأمم المستضعفة، واعتبار كل شكل من أشكال المقاومة والممانعة ضدها "إرهاباً". كما اشتدت صور الإساءة للإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصور مختلفة، مدرجين ذلك تحت صور متعددة من الوثنية الغربية الحديثة والمعاصرة، وعلى رأسها: وثنية حرية التعبير عن الرأي. وقد تعددت القراءات لأبعاد الصراع الناشئ عن تلك الهجمة اليهودية ـ الصليبية، ومحاولات الغرب مسخ شخصية الأمة وهويتها الثقافية التي تميزها عن غيرها من الأمم، وتزودها بالدفعة النفسية والمعنوية والشعورية لرفض محاولاته الهيمنة عليها وعلى مقدراتها، وإذلالها وقهرها؛ فمن قارئ لها على أنها صراع ديني، وآخر يراها أنها صراعاً ثقافياً، وثالث على أنها صراع حضاري، ورابع يجمع فيها البعد الديني والحضاري. وسبب الاختلاف يعود إلى تعدد الترجمات العربية لمعنى ومدلول كلمتيCilivization Culture &. في هذه الدراسة سنحاول تحديد مدلول تلك الكلمات، لنحدد موقفنا من حقيقة الهجمة وأبعاد الصراع.
بحث خاطئ عن الذات
إن الغرب منذ نهاية العصور الوسطى الأوروبية، حيث بدأ رحلة البحث عن الذات من جديد، جنباً إلى جنب مع رحلة الخروج من عزلته، والانعتاق من قيود الجهل والتخلف التي كان يعيشها بالانفتاح على علوم المسلمين، التي كانت في ذلك الوقت متقدمة جداً بالنسبة لذلك العصر، وكانت أكبر من أن يستوعب الغربي المتعصب الجاهل الخارج من رحم هزيمته في الحروب الصليبية وحقد الكنيسة على الإسلام، أن من الإنصاف والعدل أن يعترف الإنسان لأهل الفضل بفضلهم، مما سبب عنده مزيداً من الحقد على الإسلام وأمته، والخوف من عودة الروح الإسلامية إليها من جديد، فبدأ يخوض أشرس معاركه لتدمير هذه الأمة وجميع مقومات وجودها وقوتها. وكانت الرحلة الثالثة التي صاحبت خروج الغرب الصليبي من ظلمة العصور الوسطى؛ رحلة انطلاقة إلى العالم المجهول بالنسبة له حتى ذلك التاريخ، المعلوم للمسلمين، وهي ما أطلق عليها "الكشوف الجغرافية"*. وقد كان من أشد سلبيات الغرب الصليبي في رحلة بحثه عن الذات من جديد؛ أن انتكس انتكاسة أسوأ من سابقتها، وارتد إلى جاهلية وتخلف عقلي أشد ظلمة مما كان عليه في العصور الوسطى الأوروبية*، حيث أعاد اكتشاف ذاته وبناها، على أساس من عقيدة وفلسفة وقانون ونظام العصور الإغريقية ـ الرومانية، وأخذ عنها ما أصبح يُميز هويته الثقافية "الحضارية" عن بقية شعوب العالم، بدء من "المعجزة الإغريقية" عقدة العنصرية والتفوق، والتعصب للجنس الأبيض، تلك المعجزة التي كانت ردة فعل على شعور الإغريق بالنقص عندما احتكوا وانفتحوا على حضارات الشرق المتقدم جداً في تلك الأزمان عن الإغريق، مروراً بالمبدأ الأخلاقي ونزعة الذوق والجمال الإغريقية الرومانية؛ ما كان له تأثيره الواضح في إكساب الحضارة الغربية الحديثة خصائص أساسية ميزتها عن كل حضارة، مثل: النزعة لاحتلال الآخر، والإباحية، والعبثية، وتفكيك الروابط الاجتماعية وانحلالها، والاهتمام بالمرأة وتعرية جسدها، والشك في جميع الثوابت الدينية الغيبية، والأخذ بمبدأ "البقاء للأصلح"... إلخ، مما تمتاز به الثقافة "الحضارة" الغربية، ويعتبر من خصائصها المُمَيِزة. لقد شكل الغرب الصليبي نظرته لنفسه وللآخر وصقل علومه ومعارفه، وإعادة بناء ذاته وحدد معالم هويته الخاصة، على أُسس الفلسفة الإغريقية، وفهمها لمدلول كلمة Culture، وجذرها اللغوي اللاتيني، الذي يعني زراعة الأرض والغرس، ما جعل الغربي ينظر إلى نفسه وذاته على أنه هو الإنسان المتحضر الوحيد، وأن دوره هو نقل الحضارة والمدنية للشعوب الأُخرى، وتعليمها وتطويرها وإخراجها من تخلفها، وغرس قيمه ـ التي هي القيم الإنسانية ـ في كل مكان يصل إليه. أضف إلى ذلك؛ أن موقف الكنيسة والباباوات السلبي والعدائي للعلم والعلماء أدى إلى ردة فعل سلبية عند كثير من علماء الغرب أثناء صراعهم للتحرر من ظلم وهيمنة وتعسف الكنيسة، ذلك الصراع لعب دوراً مهماً في تأسيس خاطئ للبناء العلمي الغربي في معظم فروع العلم وخاصة الإنسانية، أساسه العداء للدين وإنكار جميع أفكاره تصوراته عن الإنسان والحياة والكون، ومحاولة تشويه دور الدين والعقيدة الدينية في حياة المجتمعات منذ فجر التاريخ، لذلك أنكروا وجود الله، وأن الدين والتدين في الإنسان شيء فطري متأصل في نفسه، ونابع من داخله، وحاولوا تفسير الدين كظاهرة من ظواهر المجتمعات والحياة البشرية، وردوها إلى أسباب كثيرة ومتناقضة في بعض الحالات، فبعضهم رأى أن الإنسان عندما كان يعجز عن السيطرة أو قهر ظاهرة ما كان يعبدها، وآخر رأي أن الإنسان عندما كان يخاف من شيء كان يعبده، وآخر اعتبرها من المظاهر التي صاحبت الاستقرار البشري وبناء الحضارات وما صاحبها من ترف ورفاه ...إلخ إلى غير ذلك من التفسيرات، إلى أن وصل الأمر بفيلسوف ملحد ساقط أخلاقياً مثل نيتشه أن لا يجد غضاضة أو مخالفة أو إنكار لحقيقة فطرية، عندما أعلن عن "موت الله"، أو آخر أنكر الأديان كلها، وثالث اعتبر الدين عنوان مراحل التخلف والجهل والبدائية في حياة المجتمعات، وأخيراً أعلن العقلانيين أنه لا حاجة للإنسان لإله، فالإنسان في عصر التكنولوجيا، والأقمار الصناعية، وسفن الفضاء، قادر على أن يصنع الإله الذي يريد.
أما النظريات ذات العلاقة بأصل الكون والإنسان، فهناك من اعتبر أن الكون وجد صدفة وأن كل القوانين التي تحكم حركته وليدة تلك الصدفة، وهناك من قرر أن أصل الإنسان قرد، وأنه تطور مثل أي شيء تطور في هذا الكون إلى أن أخذ الشكل الذي هو عليه الآن، وكان الأساس في تطوره هو حاجته، وذلك منذ عشرات الملايين من السنين، وطبعاً لعجزهم عن إثبات كيف تم ذلك التطور من قرد إلى إنسان؛ قالوا: انه كان نتيجة طفرة حدثت له، ومنذ ملايين السنين إلى الآن لم تحدث له أي طفرات جديدة، لذلك توقف تطوره على هذا الحال، وبناء على ذلك اعتبر الإنسان حيوان، ولكنه حيوان اجتماعي، وناطق، وعاقل ومفكر..إلخ؟!!. أما عن ميل الإنسان إلى العيش في جماعات، وتشكيل مجتمعات منها؛ لها نظم وقوانين تحكم العلاقة بين أفرادها، فقد فسر علماء الغرب هذه الظاهرة البشرية بأنها ناشئة عن غريزة الإنسان لحب التجمع والحياة الجماعية أو رغبته بها، أو بسبب رغبة الإنسان في حماية نفسه من الوحوش وظروف الطبيعة، والتعاون على مصاعب حياته اليومية .. وعلى ذكر الغريزة نعلم أن العلماء الغربيين يردون كل فعل أو سلوك عند الإنسان والحيوان إلى الغرائز، وفي البداية كانت الغرائز عند كل من الإنسان والحيوان لها نفس المفهوم، وبعد ذلك تطورت الدراسات وأصبحت تميز بين غرائز الإنسان والحيوان. أما عن تعلم الإنسان اللغة وطريقة التفاهم والتواصل بين أفراد المجتمع الواحد؛ فهي مثل غيرها من المسائل الخاصة بالشأن الإنساني، تطورت عبر مراحل كثيرة، بدء من الأصوات والإشارة إلى أن أصبحت لها أُصول وقواعد كما هي اليوم. وهكذا مع جميع فروع العلم الخاصة بالكون والإنسان التي قامت في الغرب على اجتهادات البشر في فهمها أو تفسيرها، دون اهتداء بعقيدة دينية سماوية خالصة، أو قد يكون شابها بعض التحريف ولكن ظلت تحمل تصور سليم وصحيح عن أصل الكون والإنسان ووجودهما، مما كان سيوفر على أولئك العلماء الكثير من الجهد والوقت والتخبط في فهم تلك الحقائق الإلهية والفطرية، كما أنه كان سيوفر على البشرية كثير من الحروب المدمرة، وكثير من المآسي والعذابات التي ولدتها النظريات والتصورات التي كانت نتيجة ذلك الجهل والتخبط البشري، بل كانت ستوفر على البشرية كل النكبات التي ألمت بها، وكانت ستخرجها من حالة الضياع التي تتعمق يوماً بعد يوم، بسبب نظريات من يسمون علماء ومفكرين.
خلاصة القول : أن معظم النظريات الاجتماعية الإنثروبولوجية الخاصة بدراستنا هذه؛ مرت بمراحل طويلة ومتقلبة في تاريخ الغرب الحديث؛ ما يعرف بـ"قرون الحداثة الأوروبية"، ومنها ما اكتملت الرؤية الغربية فيه، ومنها ما زال لم تكتمل فيه الرؤية. كما أن تلك النظريات بنيت على أسس مضطربة من اجتهادات وصنع البشر، لعبت فيها الأهواء والحالة النفسية والعقلية والخُلقية، والصراعات الدموية التي اجتاحت الغرب الصليبي بعد ما يسمى "عصر النهضة الأوروبية"، والتجارب الشخصية والعامة... وغير ذلك، لعبت دوراً مهماً في رسم وتحديد توجهات وغايات العلوم الغربية الحديثة، في الوقت الذي تعتبر فيه تلك العلوم هي علوم الإنسانية جمعاء وليس علوم الغرب وحده. وقد كان الخطأ الذي وقع فيه من نقل لنا تلك العلوم والتصورات الغربية عن كل شيء في هذا الكون أن من نقلوها ـ إلا ما رحم ربي ـ نقلوها كما هي، وأخذوها على أنها مسلمات علمية صحيحة، دون أن ينظروا فيها ويمحصوها في ضوء تصوراتهم العقائدية، ومفاهيمهم الدينية، وتصحيح ما وقع فيه أولئك الغربيين من أخطاء حول فهم دوافع التدين مثلاً، والنفس البشرية، والإنسان ككائن اجتماعي ناطق عاقل مفكر، وأصل الكون والحياة والإنسان.. وغيرها مما يدخل في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، ولا زال الكثير من أهل الاختصاص إلى يومنا هذا لم يعيدوا النظر في تلك العلوم ونتائج دراسات الغرب فيها.
أعترف بقصور علمي ومحدوديته في موضوع هذه الدراسة، و أعترف أنني أطرق باباً كان يجب أن أدعه لأهل الاختصاص، إلا أنها محاولة لإلقاء حجر في الماء الراكدة حول مثل هذه المفاهيم عله يحرك أهل الاختصاص، ومن لديهم القدرة على تناول تلك المصطلحات وإعادة النظر فيها، وإعادة تحديد مفاهيم ومدلولات دقيقة لها من وجهة النظر الإسلامية، في ضوء المتغيرات التي حدثت منذ أول ترجمة لها إلى اليوم.
* مصطلح "الكشوف الجغرافية" الشائع بين الكتاب، لأن ما يعتبر كشوف جغرافية بالنسبة للغرب، كان بالنسبة للعرب والمسلمين كشوف قديمة، فكل العالم الذي كان يكتشفه الغربي بمساعدة العلوم والعلماء والبحارة المسلمين، كان يتعرف عليه الخرب لأول مرة. "الكاتب".
* العصور الوسطى: مصطلح يدل على مرحلة زمنية في التاريخ الغربي، كان طابعها الانغلاق والجهل والتخلف والجمود، وسيطر فيها رجال الدين على حياة البشر في جميع نواحيها، غلب عليها الفساد الإداري والمالي والأخلاقي في الكنيسة، وتحالف فيها رجال الدين مع الأمراء الإقطاعيين ضد عامة الناس في بلادهم، كما تميزت بمحاربتها للعلم والعلماء ورفضها للتجديد، وكثُرت فيها إلى جانب الخرافات والشعوذة؛ الصراعات والحروب الدينية النصرانية "المذهبية"، تبدأ هذه المرحلة من ميلاد السيد المسيح وتنتهي نحو 1500 ميلادية. ومن الخطأ إطلاقها كمرحلة تاريخية لجميع الأمم والشعوب، لأنه في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعيش في تلك المرحلة، كانت بلاد المسلمين تعيش ذروة المجد الإنساني، حضارياً وعلمياً وعلى جميع الصُعُد، فهي مرحلة تاريخية خاصة بأوروبا فقط. "الكاتب".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق